عرض مشاركة واحدة
قديم 30-04-07, 02:19 AM   #7
فتى الرياض

من كبار الشخصيات
افتراضي

 

(6)
كانت العائلة مجتمعه في منزل أبو سامي عندما استيقظ سامي ووجدهم متراصين على الأرائك الخشبية داخل الكوخ الكبير ، فما أن فتح عينيه حتى بدأ يتفحص وجوه الحاضرين فرأى خاله عمر الذي طالما أحبه ، رفع يديه قائلا : خالي ، أحملني .
استجاب الخال وبعينيه دمعة عصية ما أن حمله حتى سقطت على مشهد الجميع ، رآها سامي فقال : خالي ألم تقل لي أن الرجال لا يبكون .
جاوبته خالته الصغرى التي كان أيضا يحبها كثيرا : نعم يا حبيبي الرجال لا يبكون ،، وقامت فتناولته من أخيها ثم احتضنته وانهمرت دموعها هي الأخرى ، قالت الخالة الكبرى : لا تفجعوا الولد ، واحتملته الأخرى وأجلسته على فخذها وظلت تمسد شعره لكنه مقاطعا هذا الصمت والحزن الذي حل بالجميع : أنا لا أبكي ، فماذا تبكون ؟
قالت الخالة : أنت رجل لا تبكي ، أنت أقوى منهم يا بني .
قال : لكنني أعرف لماذا تبكون ، أنتم تبكون لأنني أصبحت أمشي على أربع كمثل الهر ، أليس كذلك ؟
فانفجر الجميع يبكيه في حزن بالغ وانهمرت أدمعهم حتى تلك الخالة الشجاعة التي تظاهرت بأنها لا تبكي لم تستطع تحمل الموقف فناولته لأمها العجوز وخرجت من الكوخ وهي تغطي وجهها بوشاحها ويتبعها نحيبها .
مكث الجميع يبكي دون استثناء وكانوا الوالدين وخالتين والجد والجدة وخاله عمر إلا أن البعض لم يشأ أن يراه سامي بهذه الحالة فخرج مغطيا وجهه بكمه أو بعمامته أو بوشاحه كالنسوة ، فخرجت خالتيه وخاله وأبوه وظل البقية يبكونه أمامه فما كان منه إلا أن بكى لبكائهم لكن الجد الذي يبدو أنه هدأ قليلا من موجة البكاء واستجمع قواه ليقول : سمعت أن الحكومة أحضرت طبيبا متخصصا لهذا المرض من إيطاليا .
حينها عاد أبو سامي وقد مسح أدمعه واستجمع قوته فردد الجد : أسمعت يا أبا سامي ما قلت ؟
فهز أبو سامي رأسه بالنفي ، فتابع الجد قائلا : يقولون أن الحكومة أحضرت طبيبا متخصصا لهذا المرض من إيطاليا .
قال أبو سامي : أنت تعرف الأطباء الإيطاليين يا عم هم ماهرون والعلم عندهم متقدم عنا ، هل تذكر ذاك الطبيب الإيطالي الذي عالج أم سامي ؟
الجد : نعم أذكر ، كيف لا أذكر وكل الأطباء قالوا لا بد من عملية جراحية لتنظيف الرحم من بقايا الجنين الميت ، وهو الوحيد الذي قال علاجها بالإبر والعقاقير .
أبو سامي : في الحقيقة أنا أثق جدا بالإيطاليين ، إن لهم باعا في شتى العلوم .
رأت الجدة التي كانت ما تزال واضعة سامي على حجرها أن تشارك في الحديث فسعلت قليلا ثم قالت : يا جماعة الله الشافي .
تناول الجد الحديث فقال : ونعم بالله ، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالتداوي والأخذ بالأسباب وهو القائل : ( لكل داء دواء علمه من علمه وجهله من جهله ) والغرب سبقنا بهذا العلم بينما كنا بدو لا نفقه القراءة من الكتابة .
الجدة : لكن رأيت في المستشفى أطباء عرب كثر وكلهم تقريبا فاهمون واجبهم وعملهم .
الجد : هم مازالوا يتعلموا صنعة الطب فينا ، إن أغلب ما رأيت من الأطباء العرب هم شباب أنداد أبنائي فمتى تعلموا ؟ ومتى أتقنوا مهنة الطب ؟
أبو سامي : لكن يا عم سمعت أن الحكومة ابتعثتهم للخارج فتعلموا هناك من علومهم على أيد الغرب .
الجد : ما زال أمامهم وقت طويل من الخبرة والتجربة ليصلوا لما وصل إليه الغرب .
الجدة التي لم يعجبها كلام زوجها المسن : أظن أنكما مفتونان بالإيطاليين والغرب متناسون أن الله هو الشافي والمعافى .
أبو سامي : لا يا عمة ما نسينا فإيماننا بالله أكبر ، لكننا نعلم أن العلم لدى الغرب متقدم وكذلك الطب .
الجدة : ما أروعكم في الكلام ، المهم غدا تذهبون بالولد للمستشفى .




كان الوقت لم يتجاوز السابعة صباحا عندما وصل كل من سامي وأبوه وجده من أمه وعمه أحمد للمستشفى الحكومي الوحيد بمدينة جدة حينها ، فتوجهوا لموظف الاستقبال الذي بادرهم قائلا : أي خدمة ؟
أبو سامي : نعم يا ولدي ، لدينا أبننا هذا مرض بالشلل قبل يومين من الآن .
الموظف الذي أشار بيده خلفهم مباشرة : انتظروا على الكراسي تلك فالأطباء لم يحضروا بعد .
الجد : شكرا يا ولدي .
كانوا ما زالوا ينتظرون قدوم الأطباء عندما حانت الساعة الثامنة فرأوا أطباء من جلدتهم لكنهم بدوا أصغر سنا بل هم أغلبهم مراهقون ، تفكر أبو سامي قائلا في نفسه : أهؤلاء المراهقون حملوا أمانة رقاب الناس وأوجاعهم ؟ والله إن كان هؤلاء أطبائنا فنحن ضائعون لا محالة ، نظر إلى أحدهم وقد بدا أنه من جلدته لكنه بشعر أشقر طويل تعمد إطالته ليتجاوز رقبته ، قال بصوت مرتفع معبرا عن استياءه : هه .
نظر الجد إلى أبو سامي متسائلا : ما ذاك ؟
أبو سامي : أنظر لذي الشعر الطويل ، أيبدو عليه شكل طبيب ؟
الجد : هؤلاء هم العينة التي أخبرتك عنهم بالأمس ، شباب لا يهمهم غير المال والراتب ، ولا أظن أنهم يهتمون لآلام الناس وأوجاعها .
العم أحمد الذي بدا أنه مستمع جيد : لا هؤلاء متعلمون في الخارج ابتعثتهم الحكومة وصرفت عليهم ليقوموا بخدمة البلد ، لكنهم بدل أن يتعلموا ما ينفعهم تعلموا حتى عاداتهم وتقاليدهم ، لكني أثق في أنهم سيقومون بخدمة البلد على أكمل وجه ، فقط هم يحتاجون للنضج العقلي قليلا ومنحهم الثقة وسوف يتحملون المسؤولية .
الجد : أي ثقة هذه التي سأمنحها لمثل هؤلاء ! أنظر كيف يتباهى بمشيته وقل أي انطباع لديك بعدها .
العم أحمد : لا تأبه بمشيته فهو مازال شابا يتباهى بالصحة والشباب ، إنني متفائل بهم وأعتقد أنهم خير من يحمل هموم البلد وأوجاع الناس .
أبو سامي : أحمد يا أخي العزيز إني أهنئك بتفاؤلك بهذا الجيل ، المتفسخ الأخلاق والمضيع العادات .
العم أحمد : كيف لا أتفاءل بهم وأخت زوجتي ولدت على يد طبيب شاب بعملية قيصرية .
الجد : بالله عليك ، قل كلاما غير ذلك ؟
العم أحمد : لقد رأيته بنفسي في هذا المستشفى إنه شاب سعودي تعلم في امريكا وكندا وهو من كبار الجراحين في المستشفى .
الجد الذي بدا كأنه تسلل لقلبه التفاؤل الحذر : لكن ! أيعقل أن يولد نسائنا طبيب رجل .
العم : لا تخف إنهم مؤتمنون ، فقد أدوا القسم على حفظ عورات الناس وحقوقهم وأداء واجبهم .
أبو سامي : لن أسمح بطبيب يفحص امرأتي ولو علمت أنها على شفير الموت ولم يبقى في البلد غيره .
العم أحمد : كفى يارجل ،، قل كلاما غير هذا ،، أين ذهب الإيطالي الذي عالج أم سامي من الجنين المتوفي في بطنها .
أبو سامي : لم ير لها عورة لقد أخفيتها تحت عباءتها وكشفت له فقط منطقة البطن ، ثم كنت مضطرا لاستشارته !
العم أحمد : والطبيب السعودي جاركم ، ما قولك به ، ألم يكن يحقن أم سامي في منطقة الورك .
أبو سامي : ذاك رجل بعمر أبيها ومتدين مؤتمن وكنت مضطرا أيضا فلا يوجد في حارتنا غيره وكانت الحقن يومية ومع ذلك كنت أخفيها تحت عباءتين لكيلا ير منها مقدار بنان غير مكان الحقنة .
العم أحمد : إذا دفعتك الحاجة ، والضرورات تبيح المحظورات ، أوليس كذلك يا أخي ، وأطلق ضحكة صغيرة .
الجد : يا أحمد أخوك غيور جدا لكنه يتماشى مع الواقع والحال ولديه شيخ في الحارة يفتيه فيرخص له بأشياء فيستمع له وينقاد لنصحه .
أبو سامي : ( الشيخ إبراهيم ) رجل صالح وهو يفهم في أمور الدين أكثر منا يا عم .
الجد : نشهد له بذلك ، لكنك تحبه كثيرا .
أبو سامي : أحب الصالحين ولست منهم ....
العم أحمد : سمعت أنه مسافر للسودان ، سيجلب عائلته وأولاده .
أبو سامي : منح الجنسية بعد تعب ومشقة ، ويريد الآن أن يضم عائلته معه .
الجد : الشيخ إبراهيم إيه ،، وأطلقها طويلة .
قطع هذا الحديث موظف الاستقبال الذي أشار للقوم أن هلموا . ففز الجميع من الكراسي وتقدموا إليه ، فقال : أعطوني البيانات أدونها ، فأعطوه فدونها وقص ورقة من مذكرة ناولها العم أحمد وقال الدور الثاني عنبر العظام .
صعدوا الدرجات المتهالكة للطابق الثاني وعندما وصلوا وجدوا ممر طويل مليء بالمراجعين ، لم يجدوا لوحات مكتوبة تدلهم على عنبر العظام فاستعانوا بممرضة بدت من لهجتها أنها مصرية فأشارت لهم بمكانه وغادرتهم على عجل .
دلفو إلى العنبر يحمل الأب سامي بينما يحمل العم الورقة التي أعطاهم موظف الإستقبال والجد ليس بيده غير عصاه التي يتوكأ عليها ، توجهوا فورا للممرضة المصرية التي قالت ضعوه على السرير قالت : مم يشتكي ؟
العم أحمد وهو يناولها الورقة قال : شلل أطفال .
أخذت تفحص قدميه وساقيه التي بدت أنها هزيلتين ، في حين جاء طبيب شاب قال : مم يشتكي ؟
الممرضة قالت وهي منكبة على الطفل : شلل .
ألتفت الطبيب لمرافقي الصبي قائلا : أخذ جرعة الحصانة .
قال الأب : لا لم يأخذها .
الطبيب : يأخذ الجرعة أولا ثم نعاينه .
الجد : أين الطبيب الإيطالي الذي أحضرته الحكومة جزاها الله عنا وعن المسلمين خيرا .
الطبيب : هو الآن يعاين المرضى في عنبر الأطفال ، إذا أردتم رؤيته فهو في العنبر الآخر .
الجد : أبو سامي ، خذ الولد دعنا نرى الإيطالي .
الطبيب : لكن لازم يأخذ الجرعة أولا .
الجد : نرى الطبيب أولا ثم نقرر .
الطبيب : أنا أيضا طبيب تعلمت في كندا .
الجد : لم نقل غير ذلك ، نريد أخصائي الشلل فقط يعاينه ثم نقرر بعدها ويكتب الله ما فيه خير .
الطبيب : مثل ما تريدون .
حمل أبو سامي طفله وسحب الجد الورقة من يد الممرضة قائلا : شكرا يا ابنتي .
الممرضة : لا شكر على واجب .
دلفوا إلى عنبر الأطفال وقرروا رؤية الطبيب الإيطالي الذي كان منهمكا برؤية أطفال أخر أصيبوا بنفس المرض كان معه طبيب سعودي يرافقه ويترجم له من اللغة العربية للإنجليزية ، أخيرا وضعوا الطفل على سرير وجاء الإيطالي يعاينه ، فحص ساقية فحصا دقيقا ثم ألتفت ناحية الطبيب السعودي قال شيئا غير مفهوم ، نظر الطبيب السعودي نحو مرافقي الصبي قائلا : هل أخذ الجرعة .
أجاب الأب : لا لم يأخذها .
وبدا كأن السعودي ينقل إجابتهم للإيطالي الذي عقب على ذلك بكلام مطول فسره الطبيب السعودي قائلا : يقول لكم لا تعطوه الجرعة بما أنه أصيب بالشلل فالجرعة بعد الإصابة يربط الأعصاب ويقتلها ويمنعها من استعادة عافيتها .
قال الأب : لكن هناك طبيب العظام كاد أن يجبرنا على إعطاءه الجرعة .
الطبيب بعد الترجمة : لا تستمعوا له هذا المرض جديد على منطقة الشرق الأوسط وليس كل طبيب يستطيع التعامل معه .
الجد : وكيف نعمل إذا أجبرنا الأطباء على إعطاءه الجرعة .
الطبيب : ارفضوا ذلك رفضا قاطعا وسأكتب لكم ورقة توصية بذلك مع ورقة العلاج .
أبو سامي : هل علاجه بالعقاقير ؟
نقل السعودي السؤال للإيطالي فأجابه إجابة بدت طويلة بعض الشيء .
الطبيب : يقول لا بدون عقاقير ، علاجه بالتدليك وذبذبات كهربائية فقط ، ويكرر تحذيره الشديد لا تعطوه حقن أو عقاقير فقط فيتامينات مقوية ومدعمة لجهاز المناعة .
أبو سامي الذي بدا واثقا من كلام الإيطالي موجها كلامه لأخيه أحمد : أرأيت ، ما كاد يفعله بني جلدتنا في قسم العظام ، كاد أن يضيع الولد بالجرعة .
رد بحركة من كتفيه بالعجب ولم ينبس ببنت شفة .
ناولهم الطبيب ورقة مكتوبة باللغة الإنجليزية وقال : هنا توصية بعدم أخذ جرعة الشلل والعلاج بالتدليك والكهرباء .
تناولها العم أحمد الذي حاول قراءتها ممسكا الورقة بالمقلوب ثم ألتفت إليهم ضاحكا وقال : خربشة وخطوط غير مفهومة !
سحبها أبو سامي قائلا : قرأنا العربي بجهد جهيد ولم نتقنه ، أما لغة أخرى فمن رابع المستحيلات أن نفهمها غير ( ييس ونو وأوكيه ونومبر ون ).
سمع الإيطالي كلام أبو سامي فتعجب فقال كلاما غير مفهوم ترجمه السعودي قائلا : أين تعلمتم هذه الكلمات .
الأب : راديو بي . بي . سي لندن ... أيام هتلر ون .
أشار الطبيب الإيطالي بيديه أن دعوكم من هتلر ثم قال كلاما غير مفهوم أردفها بابتسامة عريضة وقهقهة قصيرة وأشار بعدها بعلامة الجنون بحركة فهمها الحاضرون .
ضحك الطبيب السعودي الذي رأى علامات التعجب في وجيه الآخرين الذين لم يفهموا الكلام فقال : يقول الطبيب هتلر ضيع نفسه وشعبه والعالم أجمع ، ثم انتحر لأنه مجنون .
فغادروا وهم يضحكون مما سمعوا من كلام الإيطالي الذي لم ينس أن يرسم الضحكة على شفاههم .





  رد مع اقتباس