عرض مشاركة واحدة
قديم 30-04-07, 02:22 AM   #10
فتى الرياض

من كبار الشخصيات
افتراضي

 

كانت أم سامي تعجن في فناء الدار حينما كانت الجدة تفرك وجه سامي بقطعة قماش مبلولة فسمعوا صوت العم أحمد يقول من خارج الدار : يا أهل الدار .
ردت العجوز : أدخل يا أحمد .
فصاح أحمد : لست لوحدي ، معي رجل يريد رؤية سامي ، توارين .
فتواروا في الكوخ وقالت العجوز : سامي أمامك في الفناء ، أدخل ضيفك .
فانصاع العم أحمد وضيفه وولجوا للدار وتوجهوا لسامي الذي كان على حصيرة وسط الفناء فلما رآهم أنتابه الهلع من هول منظر الضيف كان رجلا أسودا كالليل لا ترى ملامحه مع أنهم في الصباح الباكر واختبأت عينيه فكانت لا ترى منهما غير شيء بسيط جدا أما ملابسه فهي غريبة جدا ويمسك في يده مسبحة طويلة تكاد تصل للأرض مع أنهم وقوف ويعتمر قبعة كبيرة ملونة بألوان غير متناسقة فبدا كأنه شبح أو غول يريد النيل منه ، فلما كانا على مقربة منه ووضعه لم يمكنه من الهرب صاح بذعر شديد وارتفع عويله فكان من عمه أن أحتضنه وربت عليه مهونا الأمر عليه : لا تخف هذا طبيب جاء يعاينك .
فكان منه أن هدأ قليلا من بكاءه لكنه مازال مرتابا من هول هذا الطبيب الغريب قال بصوت متقطع : لماذا لا يلبس الأبيض مثل الأطباء ؟
ضحك العم وضحك الرجل الذي بانت أسنانه حمراء كلون الدم وخيل للطفل أنه يأكل الأطفال وإلا لماذا الدم في أسنانه فأشاح بوجهه عنه والتصق بصدر عمه الذي قال : لم أكن أعرف أنك جبان بهذا الشكل .
قال الطفل وهو يرتجف : عمي هذا ليس طبيب ، هذا من يأكل الأطفال .
وزادت ضحكات العم وضحكات الرجل الأسود الذي قال بلهجة مكسرة : أنا لست طبيب مستشفى أنا طبيب أحسن وأفضل من أطباء المستشفيات ملابسنا في نيجيريا ، ومد يده وأمسك بقدم الطفل الذي بدأ أيضا بصراخ أشد ، فتركها الرجل ثم بصق سائلا أحمر على الأرض وأمسك المسبحة بيديه وأغمض عينيه قائلا للعم : ما اسمه ؟
العم : سامي .
النيجيري ومازال مغمضا عينيه : وما اسم أمه .
العم : وهيبة .
وكان كمن يتمتم بكلام غير مفهوم وهو لم يزل مغمض عينيه ثم تأوه مرتين وفتح عينيه قائلا : أجرتي مئة ريال .
العم : لا تهتم سنعطيك ما تطلبه وزيادة .
النيجيري : أما الدواء تحضر كبش أسود أقرن فيذبح وتجمعون دمه في أناء فلا تسقط منه أي قطرة على الأرض وتتصدقون بلحمه كله فلا تأكلوا منها أي شيء ، ثم تغسلون الولد بالدم وتضعون الطفل في كيس كبير لا يظهر منه غير رأسه فقط ثم يحفر له في الأرض بقدر طوله ويدفن جسد الصبي حتى الرقبة ويصب على رأسه باقي الدم الذي اغتسل به ، ويترك في الحفرة من الصباح للصباح الثاني بعدها تخرجونه وستجدونه يمشي على قدميه .




كان الوقت عصرا عندما كان العم أحمد وسامي يتشاركون حصيرة سعف في فناء الدار وقد كان اليأس باديا على وجه العم أحمد حينما كان ينظر لسامي الممدد على الحصيرة البالية في الفناء الخارجي تفكر قليلا وقال في نفسه أليس هذا الطفل اليائس هو ابن أخي الأكبر الذي أحبني دوما والذي تكفل برعايتي منذ كنت صغيرا بعدما أصيب والدنا بالعمى والعجز وأمنا تزوجت برجل آخر لم يكن يحبنا ، أليس هذا الطفل ابن أخي الذي زوجني بتلك المرأة التي هفا قلبي لها وقد طلبوا أهلها شروطا تعجيزية حتى لا أتزوجها فضحى أخي وحبيبي وعمل ليلا ونهارا ليجمع لي مهرها ويزوجني ، وعندما ماتت سعى ليزوجني بأخرى لكنني كرهت فكرة أن أحب امرأة فتموت بين يدي ، أو ليس هو ابن أخي الذي رعاني وكفلني وتكبد عناء إطعامي وإيوائي ، إني لأعلم أن صنيعي هذا خطأ فادح لتصديقي هذا المشعوذ النيجيري ولكن ماذا بيدي لأفعله فأرد جزء بسيط لأخي وحبيبي أبو سامي الذي تحطم قلبه لأكثر من عام وهو ينظر لأبنه الأكبر وفلذة كبده وحامل اسمه وهو مشلول عاجز لا يستطيع الحراك ، وزفر بآهة حارقة مسموعة سمعها سامي فانتبه وقال : ماذا بك يا عم ؟
وسمع سؤال الطفل فاستجمع شتات تفكيره وقال : لا شيء بني .
وأحس بمرارة تجوب في حلقه وشيء ثقيل يجثم على قلبه ماذا علي أن أفعل ؟ أأمضي قدما فيما أمر به النيجيري ؟ أم لا ؟ لكنه كان كالغريق الذي بدا له المشعوذ قشة النجاة ، بعدما قص له عم عيد اليماني صاحب البقالة المجاورة حكاية الاريتري جاره عندما أصيب ابنه بالشلل فاستطاع النيجيري هذا أن يعيد له صحة أطرافه ، وتردد على مسمعه من فم العجوز عم عيد : إنه معجزة يا بني ! فعل ما لم تستطيع المستشفيات فعله . حينها تأوه مرة أخرى وخرج من المنزل يذرع الشارع المؤدي للسوق ومازال يفكر محتارا ماذا أفعل ؟ وأطلق آهة أخرى كأنه ينفض شيئا عالقا بصدره وقال في نفسه : ليتك كنت موجودا يا أخي أبو سامي ، فإني أعرف مقدار حكمتك ، وكم أنا مشتاق لرأيك السديد ومشورتك ، انتبه وهو يسمع صوت يناديه : أحمد ، أحمد ، وبدا الصوت ليس بعيدا جدا ، ألتفت للوراء وهو يمشي ثم توقف ، قال في نفسه : أو ليس هذا الشيخ ابراهيم ، والله إنها صدفة عجيبة .
توجه نحو الشيخ الذي رأى حالته الحائرة تلك فاحتضنه بمودة بالغة وقدم له كرسي فجلس لكنه كان باديا شاحب الوجه وهو يقول : لم أعرف أين أذهب ، فخرجت أتمشى قليلا .
وتابع دون أن يدري ، كلما رأيت سامي ابن أخي يتقطع فؤادي ولا أعرف ماذا أفعل حياله .
الشيخ متسائلا : أمازال على حاله منذ عام ؟ أما شفي بعد ؟
أحمد : لا لم يشفى بعد ، وهذا ما يحير قلبي كثيرا .
وتابع يقول : عندما رأيتك .. قلت في نفسي أن خير من أستشيره في أمري هو أنت يا شيخ .
الشيخ الذي وضع عينيه للأرض : استغفر الله ، لست شيخا ولا مفتيا لكنني أنقل ما كتبه العلماء وما أفتوا فيه ، ما الأمر يا أحمد ، أهو أمر دين أم دنيا ؟
أحمد وهو يعدل جلسته : بشأن سامي ، فقد أحضرت اليوم النيجيري وعاينه وطلب مني أمورا قال إذا طبقت سيكون الشفاء ، وحقيقة الأمر أنني محتار أأشرع في الأمر أم لا ؟
الشيخ وقد رفع بصره عن الأرض : لماذا لم تستشر أخوك ؟
أحمد : أخي مسافر لأم الجود فقد انتقل عمله لهناك وهو لا يأتي إلا عصر الأربعاء ويغادرنا عصر الجمعة .
الشيخ : فهمت الآن لماذا لا أراه في المسجد ، عموما لو كان هنا لما سمح لك بذلك ، أبو سامي سليم المعتقد لا يقبل بمثل هذه الأمور بتاتا وأنت تعرف ذلك ، ويا أحمد أما زال الطفل يراجع المستشفى بعد ؟
أحمد وقد خيمت على وجهه الكآبة : مازال ، بدون فائدة !
الشيخ : لا تفقد الأمل ، الأمل بالله يا أحمد فإياك فعل ما يغضب ربك ؟
أحمد وقد بدا يائسا : لكن العم عيد قال لي : أن ولد جارهم الإرتري عالجه النيجيري والآن الطفل يلعب في الشارع .
الشيخ : يا أحمد ، كذب المنجمون ولو صدقوا .
أحمد : قلت أجرب فقد يكون فيه الشفاء .
الشيخ : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أتى عرافا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد ) ، احذر الكفر يا أحمد ، ولو انتظرت مقدم أخيك فهو أفضل ؟
أحمد وقد هم بالرحيل : جزاك الله خير .
ذرع أحمد شوارع الحارة حتى خيم الغروب ، فعاد للمنزل وهو حائر أكثر من ذي قبل قال في نفسه وهو عائد للمنزل : يفعل الله ما يشاء .
كان اليوم الثاني بعد صلاة الفجر وضع سامي في طشت فكان خائفا مرتعبا لكنه مستسلم للأمر حينما قال له عمه : أغمض عينيك وأغلق فاك . ففعل الصبي ثم صب على رأسه الدم .
وكانت الحفرة قد جهزت من الليل فوضع الصبي في كيس كبير وزج في الحفرة ثم ردمت تماما ولم يتبقى خارج الحفرة سوى رأسه الحائر الملطخ بالدم ، فقال الصبي : لا تتركوني وحيدا عمي .
العم وهو ينفض عن يديه التراب : سنأتي بالحصيرة ونجلس بجانبك ، لا تخف أنت رجل .
وهكذا جلس كل من العم والجدة وأم سامي يسلونه طيلة اليوم حتى يغفو ثم ينتبه وهو إما يقول : عطشان ، أو يريد التبول فيقال له : تبول في الحفرة .
وجاء اليوم الثاني وحان موعد خروج الطفل من الحفرة بدا الطفل تعبا ووجهه المتسخ بدم يابس كان أقرب للشحوب حينما قال : أتظن أنني أستطيع المشي عماه ؟
قال العم : قل يارب .
وأخذ العم يحفر الحفرة المردومة وينبشها بمعول صغير والطفل يقول : لا تجرحني بالمعول ياعم ؟
العم : لا تخف فعمك ماهر بهذا العمل .
وكانت الجدة تبتهل لله منتظرة خروج الصبي من الحفرة وأم سامي تجهز المياه الدافئة والصابون للطفل حينما فرغ العم أحمد من الحفر وحمل الصبي فأخرجه من الحفرة حينها كان الأمل واليأس مختلطان في قلوب الجميع مع تغلب الرجاء حتى الطفل الذي كان عاجزا كليا شعر بالأمل ، وهو ينظر لعمه وهو يخرجه من الحفرة ثم من الكيس .
قال العم : الآن أنزل قدميك للأرض .
حاول الصبي مد ساقيه لكنه لم يستطع .
الجدة بنبرة تشجيع : أحسنت هيا يا بطل مد ساقيك ، لا تستسلم للمرض مد ساقيك .
وقالت الأم : نعم حبيبي لا تستسلم مد ساقيك .
لكن الصبي لم يكن يشعر بساقيه بعد قال العم للجدة وهو مازال يحمله على بعد سنتيمترات عن الأرض : ساعديه ومدي ساقيه ؟
فتقدمت العجوز أمسكت برجليه وقالت : أتشعر بيدي يا بني ؟
قال الصبي وهو يرتعش : لا .
مدت ساقيه وقالت : يمكنك الوقوف الآن .
لكنه عندما أراد أن يعتمد على ساقيه انحنت ركبتيه ولم يستطع الوقوف .
عندها علم كل من الجدة والعم والأم أنها محاولة فاشلة وأن الصبي لم يشفى بعد ، وغطت العجوز وجهها وأصدرت جهيش متقطع واقتربت الأم باكية فحملت وليدها ووضعته على الطست وقامت تفركه بالماء والصابون ودمعها يجري فيسقط بعضا منه على ظهر الصبي فيختلط بالماء .
العم كان مازال مذهولا وأحس بمرارة فعلته تلك ولكنه قال : كذب المنجمون ولو صدقوا .
وأخذ يردم الحفرة ويتخلص من بقايا الكيس وهم خارجا من المنزل وهو يقول : الله الشافي ، استغفرك اللهم وإليك أتوب .





  رد مع اقتباس